من لا يعلم (أين كان) فلا يتصدَّى
للتاريخ
“من لا يعلم (أين كان) فلا يتصدَّى”
دائمًا للكلام صلة، وبهذه الصلة نستطيع ربط الأحداث ونجمع المعلومة، وإن تقاطعت ففيها من الصحة، وليس بالضرورة التقاطع المؤدي إلى الحقيقة، ولكن التقاطع يُعطي أول الطريق.
وأما بخصوص الطريقة النقشبندية في العراق وتفرُّع الطريقة، فمثلا: طريقة الشيخ كمال الدين النقشبندي رحمه الله، ونقصد الشيخ مصطفى من أهالي أربيل، مدفون في القلعة، وقد أخذ الطريقة عن والده الشيخ أبو بكر النقشبندي، والشيخ أبو بكر أخذ الطريقة من الشيخ عثمان سراج الدين الأول، ولم يتصدَّ، وأما ابنه الشيخ مصطفى فتصدى للطريقة وسميت في عهده بالطريقة النقشبندية الهرشمية؛ وتوفي سنة (1986م).
وأما اليوم فهنالك مشايخ في عدة محافظات بالعراق يدَّعون رئاسة الطريقة النقشبندية، في سامراء والموصل والسليمانية وأربيل ومناطق طُوَيْلة وبياره، وفي بغداد، وتكريت، والرمادي.
وفي هذا الوقت، وبعد زيارتي لكثير من التكايا النقشبندية في العراق، ليس بصفة رسمية، ولكن بصفة محب يزور، وبعد التحقيق تبيّن لي أن أكثرهم قد درسوا من الفقه واللغة الشيء القليل، ولهم صحبة طيبة مع بعض المشايخ، ولكنهم لا يعرفون ما هي الخلوة، ولا يعلمون مناطق الخلوة عند السادة النقشبندية.
وأقول: للعلم وللتاريخ وإلى كافة المشايخ:
يجب على شيخ الطريقة النقشبندية أن يَعْلَم الزَّمانَ والمكان، (والمكانُ ضروري جدًّا لإقامة الخلوة)، وأي شيخ نقشبندي يتحدَّى ويتصدر الطريقة، فيجب أن يقول لنا أين ومتى وكيف دخل الخلوة؟ وكم مرة دخلها وما هي مدتها؟ وماذا أكل؟ وماذا رأى؟ وأين كان؟ وهذه الأخيرة أعني عبارة (أين كان) ليس لها علاقة بالمكان، وهي نوع من أنواع الرموز لا علاقة لها بمكان الخلوة، فإذا كانوا من المشايخ حقًّا فليكملوا هذه الجملة (أين كان)، ومن لا يعلم تكملة هذه الجملة، فلا يتحدث كثيرًا بالطريقة النقشبندية، ويجمع الناس حوله، لأن كل مُتصدٍّ لا يُكمل هذه الجملة، فمعناه أنه لم يدخل الخلوة، ومن لم يدخل الخلوة فلا تجوز له الرابطة، فلماذا الكذب على الله وعلى الناس؟
والله .. من يعتقد بالموت والحساب لا يحمل الأمانة خوفًا وورعًا من الله، وأما بعض المشايخ الذين يجلسون مع الناس في الختم والنصيحة، ولا يدَّعون الرابطة لأنفسهم، فهؤلاء لا غُبار عليهم، وبارك الله فيمن أحيا مجالس الذكر؛ لأننا في زمان هو أشد الأزمنة في الخلاف والاقتتال والسب والشتم ما بين المذاهب والطرائق.
رجل الدين يجب أن يُشجع الناس على الاجتماع وعدم الافتراق، وفي الحديث: (فَعَلَيكُمْ بِالجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الغَنمِ القَاصِيَةَ)، ولكن أكثر التكايا اليوم سواء أكان في العراق أم خارجه عندهم غيبة ونميمة وكذب وعدم التزام بالصلوات، وعدم التزام بصلاة الجماعة، وشرب الشاي وتضييع الأوقات والقيل والقال والتطرق إلى أمور الأعراض، والتفاخر وتأليف واختلاق الكرامات.
وأقول: العِفَّةُ سيفُ الطريق، وحبل الخاصرة هو الحبل المتين ما بين السماء والأرض، والهروب من المعصية دليل الإيمان بالآخرة، والفتوى للنفس وللهوى وللخصوص دليلُ طريق الشيطان، ومن كان ظاهره متدينًا، وأفعاله لا تدل على ما يتظاهر به، فهذا هو كل النفاق.
ما سمعتُ من أساتذتي في الطريقة النقشبندية أن نوجد الإنسان في كل مفاهيمه، فغايتنا الوصول إلى المعنى الحقيقي للإنسان، كما ذكره الله تعالى في القرآن، وكما ذكره سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لا نريد حَفَظَة، ولا نريد إسنادًا وسندًا، وهذا ليس من منطلق أننا نرفض الأمر، فالإسناد والسند مهم جدًّا في الدين، والحفظ مهم، ولكن الأهم الوعاء (الإنسان).
قصعتُك ووعاؤك إن كان نظيفًا ليس به رائحة عفنة، فعندما نصب الطعام النظيف الشهي في ذلك الوعاء أو القصعة فإنك تأكل طعامًا هنيئًا، والمقصودُ بالوعاء (الإنسان).
ونحن في الطريقة النقشبندية نبني الإنسان، وبعد البناء فليأخذ من الأسانيد والحفظ ما يشاء.
يا أهل الطريق، يا صوفية، يا عُرفاء، يا أهل المذاهب، إننا منذ سنين ونحن في خلاف واقتتال، إلا يكفي كل هذه الدماء!!
والله لو كانت لنا آلهة تريد القرابين لها ما كنا نُقدِّم بهذه الكثرة، كيف نؤمن بالله ونتقاتل؟ كيف نحب الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويقتل بعضنا بعضًا، فلنترك الاقتتال وتأليف الكتب كذبًا وبهتانًا على بعض.
ونحن في الطريقة النقشبندية نرفض كل هذه الأمور، ومن أراد أن يتعلم معنى الإنسانية فليجد له معلمًا في الطريقة النقشبندية يعلمه احترام الأب والأم أولا، ويعلمه مفهوم العائلة (الأسرة)؛ لأن من تعلم الاحترام في أسرته فهذه أولى الخطوات في علم الطريق إلى الله.
ومن الأمور المهمة جدًّا أن يكون شيخ الطريقة رجلا طبيعيًا عاديا لا يميز نفسه عن الناس، ولا يجعل بينه وبين الناس جدرانًا وحرسًا ، ولا يتجسس على الناس، وأن يحمل التواضع تاجًا على رأسه، وأن يرى بعين المنكسر، وأن يسمع البذيء بأذن صمّاء، وألا يتكلم إلا خيرًا أو إصلاحًا.
والأهم من المهم وهو جوهر الطريقة النقشبندية (نكران الذَّات)، أن تصل إلى درجة أن تكون لا شيء، فمن استطاع أن يكون لا شيء فإنه يحوي كل شيء بدون أستاذ وطريق، ولكن الوصول إلى درجة نكران الذات يحتاج إلى معلم (لولا المربّي ما عرفتُ ربي).
كلُّ الاحترام إلى الصالحين، كل الاحترام إلى الذين لا ينامون إلا ودموعهم قد فتحت قنوات على الوجنتين، متوسلين بالله أن يُصلح حال الأمة.
كل الاحترام إلى الذين يتعفَّفون، وإلى أهل الورع، وإلى أهل الحب والعشق.
ومن الأمور المهمة في الطريقة النقشبندية (العمل)، فما وجدتُ شيخًا نقشبنديا حقًّا إلا ويعمل ويأكل من كدِّ عمله، ولا يأخذ من الناس، فمن أخذ سَقَط، ولا يتقاضى أجرًا لا على خطبة جمعة، ولا درس، ولا عون للناس، بل يعمل ويقسم ماله ثلاثة أثلاث، ثلث للفقراء في سبيل الله، وثلث للمدرسة، وثلث له ولبيته ولأولاده.
والثلثُ الذي له ولأسرته فيه نصيب للفقراء، وبالخصوص من ليس له أهلٌ، كبير أو صغير، مسلم أو غير مسلم؛ لأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (في كُلِّ كَبِدٍ رطبَةٍ أجرٌ).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار.