الوجه العبوس
الوَجْهُ العَبُوس
تذكَرْتُ جِدارَ الكِلْسِ عندَ بوابة تُوما ، وَذلك الحَــائطُ الصَّخري ، قد رَسَمَ طُحلبُ الظِّل ملَامِحَ وجهٍ قد أصابهُ الاكتئاب ..
هكذا الشام بحُزنها الآن … وحُزن ذلك الجدار قد كوَّن ملَامِحَ الأسَى ..
مـــا القول يــا صَــاحِبَ القَلَم ؟؟
هل ستُطيل الكتَابة أم ستبحث عنه أم إنك ستبقى تعيش في ذكريات الألم ؟؟
مــا هكذا الإنسان ؛ لأنهُ مبنيٌ عَلَى النِّسيان ..
اجعلْ المَاضي تُراثًا تَستند عَلَيه ، وَاجعل يَومَكَ كَالشَّجرة المُثمرة لها الظلُّ والفاكهة ، وتيقَّن أن الأمل في مِعْيار التخطيط والتوكل نتاج جميل ، ومستقبل زاهر يتحقق ولا يكون سرابًا .
واعلم أن أبسط الأشياء هي أعقد الأشياء ، وأعقد الأشياء هي أبسطُها ..
أتعلم أن البعوضةَ لها ثلاثةُ قُلوب في صَدْرها ، في الوسط ، وفي كُل جناح ..
أتعلم أن لها (48) من الأسنان ..
أتعلم أن في خُرطُومها جِهازًا لتمييع الدَّم ، وآخر لتحليل الدم ، وجهاز تخدير ..
أتعلم أنها تستطيع أن تقفَ عَلَى الأجساد ، وأن لا يكون لها وزن ..
أتعلم أنها تُحلل دم الإنسان ، وليس كُل دمٍ يُعجبها ؛ فترفض دمًا ، وتأخذ الآخر ..
أتعلم أن الطنين للبعوضة هو اختبار للإنسان هل هو بليد أم ذو غضب ؛ فالطنين وعنف الرد يُعرِّفُ البعوضة أن هذا الشخص دمُهُ في غليان أعصابه يؤثر على معدتها فلا تشرب الدم ..
أتعرف أنَّ في رأسها مجموعة عُيون ..
أتعلم أنَّ نوعًا من البكتريا يعيش على ظهرها ..
أتعلم أن في خُرطومها (6) سكاكين .. أربعة لتصنع ثغرة في جلد الإنسان ، واثنتان لشفط الدم ..
ولهذا قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا .. الآية )
والكارثة الكبرى في البعوضة أن لها اختبارًا حراريًا لا ترى الأجساد بالعيون ، بل تُحس بها حراريًا .. كالصواريخ الذكية تُطلق على الطائرات ..
طنين البعوض أضحى وأمسى أنيسي في مأواي عند مدينة الفقر .
وحركتي عندما أهشها كي لا تأخذ دمي ..
ووسادتي ما بين دمي وقطرات دم بطن البعوض ..
زخرفة .. لوحة .. فلكور في حي الفقراء ..
آهٍ من الفقر ..
هل سيأتي اليوم وأشرب ماءً نقيًا زلا لاً من أنبوب بيتي ، أو أنظر من شباك نافذتي فأرى الأزبال ورودًا ، أو أجلس في بيت لا تدخلهُ الريح من شقوق الجدران ..
هل يأتي اليوم عندما أذهب إلى المشفى فأُحْتَرَم ، ويكون لي ضمان صحي ..
متى سأكون ذا قيمة ؟؟
خليفةُ الله مَسْفوكُ الدَّم ، وكلب العَرَايا على وسادة من ريش ..
يُربّون العصافير والقطط والكلاب بأشهى الأطعمة ، وأطفال السُّمُر في براري أمتنا يموتون ما بين البرد والجوع ..
يسألني أحدهم : ما علاقة البعوض والجدار الكلسي بقضية الجوع والضمان الصحي والرفاهية في هذ الحديث الطويل يــا من تكتب ؟؟
فأقول : القرآن يُعلمنا : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا .. الآية )
أي : كُلُّ الأشياء مخلوقة لحكمة .. ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ )
وقال تعالى : (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ) ..
حاشا لله الواحد الأحد ، ولكني أنظرُ الى الله تعالى بعين مخلوقاته ما بين البعوضة والخليفة ، ولكلٍٍ حكمة ..
وإننا لا نعتز بأهلينا ولا بأقربائنا ولا بمُربينا .. بل نستحي من آبائنا وأمهاتنا ومن حولنا ولو كانوا هم الأسباب لما نحن فيه من نعيم ..
إذا كان الرجل ( دكتور ) وأبوهُ عامل نظافة يستحي أي يخشى أن يقول للناس : هذا أبي بل يُنكرهُ ويقول : من هـــذا !!
والمُهندسةُ إذا كانت أمُّها تعمل في البيوت تنكرُ وتستهزئ ، وتقول أنا بنت الأصول من العروق الذهبية ..
هذه الدنيا .. مسرحية أبطالُها حَاشَا الصَّالحين فَشَلَة لأنَّهم تربوا عَلَى الكِبر والأنَانية وحب الذات والسَّفه ، ومَا أدراك ما السَّفه ..
وأكرر : حاشا الصالحين والعلماء وأهل القدر والقيمة ..
هكذا الدنيا .. حر وبرد ، بكاءٌ وضحك ، فراقٌ ولقاء ..
ويال حسرتي على الحزن ؛ فالحزن لا يجد وقتًا للراحة ، فالحزنُ بحد ذاته مظلوم ..
وللكلام صلة .. لأن في بطن الكلام كلام ، وفي قشرة الكلام كلام ، والقول من الكلام علم ، والكلام من القول مقيل ، ومقيل قول الكلام مقول ..
هكذا اللغز من علم الإشارة ..ظاهرها أرجوزة .. باطنها أنشودة ..
إن حلَّت في مكان أهلَّت بهلال العيد كي نفرح جميعًا .
هيا نتغير .. ويحبُّ بعضنا بعضا دون زيفٍ أو خِداعٍ أو غُرور ، مــا في القلوب على الألسُن ، ونكتب على الطرقات والجدران والأسواق والفوانيس :
(( دينُنا دين الحب الحب الحب ))
◈◈◈◇◈◈◈
مقتطفات من مؤلفات و كتابات فضيلة السيد الشيخ محمد تحسين الحُسيني النقشبندي القادري رضي الله عنه وأرضاه