سجن بلا جدران
سِجْنٌ بلا جُدْران
جُدْرانُ الوَهْم والخوف والتقليد قد أحاطَت بِنا ..
نصيحتي إلى نفسي أولا .. وإليكَ .. وإليكِ .. وإلى الصديق .. وإلى العدو .. وإلى المُتزمِّت والمُنحَل. . وإلى صاحب السِّياسَة ..
إليكم فاسمَعوا .. وإنْ سَمِعتُم فاعتبروا .. فالاعتبارُ أساسُ النُّهوض والتَّقدُّم والانتشار ..
ماالفَرْقُ بين شخص محبوس بين أربَعةِ جُدران ، وَشخصٍ آخرَ محبوسٍ في تَقَاليدِ الماضي ، وأفكارٍ مَبْنيةٍ عَلَى الخوف من المجتمع ، وما سيقولونه عَلَيه كذا وكذا ..
آهٍ من كَذَا وكذا .. وآهٍ ممن تَرَكَ الخُلُق المحمَّديَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
واتبعَ التَّقاليدَ الموروثة..
إننا محبوسون في داخلِ سِجْنٍ جُدْرَانه مِنْ حَديد الخَوْف ، وَنافِذتهُ مجتهدٌ لا يَعْرف مِنَ الحياة، غير أحكام النُّذور ،والغُسْل، والوُضوء.
هذا الذي قد فَتَكَ بالمجتمع فبقينا نَدورُ وندور في دائرة مغلقة.
البَارحة صورةٌ من اليَوْم ، واليوم تكرار الغَد ، وغدًا صورة من الشَّهر الماضي، كأنَّ الماضي حاضرنا ، وحاضرنا ماضي ، والحاضرُ مَمْحيٌ ، وَالمستقبلُ لا نَعْرِفُه.
إذن : نحن في سِجْنٍ من الأفكار، والآراء المقدسة، لإنسانٍ مُعَرَّضٍ للخَطَأ والصَّواب، وتَرَكَنا القُرآن والأثَرَالشَّريفَ صلى الله عليه وآله وسلم.
ألم تقرئوا : قوله تبارك وتعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) ( سورة الرحمن: 33).
الآية تَحضيضٌ وأمْرٌ للتَّطور والتغيير من حالٍ إلى حالٍ أحسن، وتَركِ الخوف ، والدليل بأن تَنْفُذوا من أقطار السَّموات .
أتعرفون : يا عَوَام ، ويا عُلماء ، ويا فَهَّامَة ، ما معنى أقطار السموات ، أو ما معنى قُطْر السماء الأولى فقط .. لأنَّ الله تعالى يقول لنا : عند الاستطاعة .. انفُذُوا ..
وكذلك الحج لمن استطاعَ إليه سبيلا.
الحجُّ فريضةٌ واجبة على المسلم بشرط الاستطاعة؛ فإن لم يستطع فَقَد سَقَطَ عنه الحج .
إذن : الآيةُ المتقدمة أعلاه ( يا مَعْشَر الجن .. الآية ) أمرٌ مَعَ الاستطاعة، وبحث دون الاستطاعة ، وهذا تشجيعٌ وأمر لِئَن نُبْحِرَ في الفَضَاء ، وليس في السَّماء الأولى، بل السَّموات السَّبْع، لقوله تعالى :
( من أقطار السموات).
تعالوا : لنتعرف على قُطْر السَّماء .. ما معنى قُطْرِ السَّماء بمعنى بسيط : مَنْ رَسَمَ عَلى وَرَقةٍ بَيْضَاءَ دَائرةً ، وَخَطَّ خَطًا في وَسَط الدَّائرة، هَذَا قُطْرُ الدائرة .. وفي المركز أحدُ الأطراف نِصْف القُطْر .
للعِلْم : المسافةُ بين الأرض والشمس (154) مليون كم .. وشُعَاع الشَّمس يَصِل إلى الأرض خلال ( 8 ) دقائق .
والشَّمسُ هي عبارة عن إحدى الشُّموس الموجودة في مجرتنا ( مجرَّة دَرْب التَّبَانة).
وطُولُ مجرتنا : (100) ألف سنة ضوئية.
وللمَعْرِفَة: الثانية الضوئية تعني سُرْعَةَ الضوء في الثانية التي تقطع ( 300 ) ألف كم في الثانية.
ومجرتنا هي مجرةٌ بسيطة تُعتبر من المجرَّات المتوسطة ، أو تحت المتوسطة ، وسماءُ الدُّنيا، أي: ما تَوَصَّلنا إليه بالمشاهدة، والبحث، والإقرار بالموجود فيها ( بَلايين المجرات ) .
وللعلم : البليون = 1000 مليون.
وكلُّ مجرةٍ فيها مَلايينُ النُّجوم، والحساب التقديري ما توصل إليه العلماء إلى هذا اليوم ، قُطْر المجرات في سَمَاء الدُّنيا ، أي السَّمَاء الأولى : (ثلاثون ألف سنة ضوئية).
وبين كلِّ مجرة ومجرة ( 3 ) مليون سنة ضوئية .
والعلمُ الحديث أثبَتَ تقديريًا بأنَّ قُطرَ الكون ، وما نَعنيه : المشاهد إذا كان له حُدود = ( 156) بليون سنة ضوئية .
وللعلم: ليس لهُ حُدود .. قال تعالى : (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) ( الذاريات:47).
فالتحضيضُ من الله تبارك وتعالى بأن ننفُذَ من هذه الأرقام ، كيف ننفُذ .. عِلْمُهُ عند الله …
ولكن نحن مأمورين بأن نَشُدَ الرِّحالَ إلى الكواكب والنجوم ..
والنفوذ من السماء الأولى بهذا الحجم الواسع الشاسع إلى السماء الثانية ، ولا نعلم عنها شيئًا .. ثم إلى الثالثة ..
فالأمرُ عندَ الاستطاعة.
والتفكيرُ في هذه الأرقام المذكورة يجعلُ العَقْلَ في حَيْرَة ، وفي عَجْز ، وَهَذَا العَجْزُ دليل عَظَمة الخالق
( لا إله إلا الله ) أحدٌ صمد ..
سؤال: هل الله يَسْتهزأ بِنَا ؟؟
حاشا لله تبارك وتعالى ، قُطِعَت الألسُن ، ولكن كي نكسرَ الأغلال ، ونَخرُجَ من سجنِ العُرْفي والوهمي والتقليد الجامد، بأن نَدخُلَ عَالمَ العَمَل والاجتهاد والإنتاج.
اليوم : الإبحارُ فيما بين المجرَّات مُستحيل ، هي عبارة عن نَظَريات ، ولكن في المستقبل تكون بسيطة مثلما نتحرك بالطائرة بين بغداد والبصرة ، والقاهرة واليمن ، وبين طهرانَ ونَجْد .
والسَّفرُ إلى القَمَر ، والوصول إلى المريخ .. هذه بداية البدايات في عالم الإبحار كمُكتشفِ الفأس عندما قَطَع الأغصان!! ..
قُمْ واسقِني طَالَ انتظاري .. والكأسُ ملّ
لا شرابَ بل شرابًا … يُعينُ على الحل .
يا أيها الإنسان : يا صاحبَ الرُّوح والوِجْدَان والجِد .. اخرُجْ من قيد الفكر الجامد ، ولا تتعدى حدودَ الله (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ( الطلاق : 1) .
لأنَّ التَّعدي على الحُدود هو الخُروج من المعقول إلى اللَّامعقول ، ونحنُ نَحُضُّ على الفِكْر والعَقْل والالتزام ، وكلُّ هذا في دَاخِل المعقول .
سُؤالٌ لكم : يا أيُّها المُسلمون / نحن أمَّةَ القرآن ، ونحن قد أمِرْنا بالنُّفوذ والإبْحَار في أقطار السَّموات ، ولكن هل نحن أبْحَرْنا .. أم غير المسلمين أبْحَروا ووصلوا وصَنَعوا وَتطوروا .
كالذي يقولُ لِزَوجته : يا زوجتي الغَالية ، اطبُخي لنا قِدْرًا من الأرز بالزَّعْتر الرُّومي ، فهي لا تُنفِّذُ الأمرَ ، بل الجارَة في البيت بعد المائة تنفذُ أمرَ هذا الرجل الغريب .. عجبًا لهذا المنطق ( منطقٌ راقي) .
فنحن لم نَصِل إلى القمر ، ولا نُنشئُ مَرَاصدَ للفَلَك ، ولا مُؤسساتٍ للفَضَاء ..
والأممُ الأخرى التي لا تعترفُ بالقرآن وصَلَت، ولديها أقمار صِنَاعية وتجارب ووكالات فضاء ، وتَصْرِف المليارات على تنفيذ المشروع الإلهي .
وأما المسلمون فيصرفون الأموال على الحرب والقتل والفتنة ، ومن يُوسِّع دَائرةَ مَذْهبه وفِكْره الاجتهادي على الآخر ، والصِّراع على مَقْعدٍ عَفِنٍ كي يُثبتوا لأنفسهم مَقَاعدَ من نار .
فنحن نَخَافُ من الرَّأي ، ونَخَاف من الاجتهاد ، ونَخَاف من التغيير ، ونَخَاف من الإبحار في المسائل المذهبية ، ونَخَاف من التأريخ.
إياكم أن تقولوا …
قد دَخَلنا في ثوب الصِّراع المذهبي والقومي والصرف المضحك على الموائد لغَرَض الفوائد ، وبناء البيوت الفَخْمَة الضَّخمة ، كي يقولوا : بناهُ فلان .
أين أنتُم يا أمَّةَ سيد الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الدين ، ومن القرآن والحديث.
أخفوا أنفسَكُم تحت التُّراب .
هم يتطورون ونحن نتدهور .
هم يتقدَّمون ونحن نتأخر.
هم يجتمعون علينا ، ونحن نفترق فيما بيننا .
بالله عليكم أين الخلل ، وهذا المصاب الجلل .
الخلل في الفِكْر ، وجُدْران الخوف قد أحاطَت بالعقل ، فافهموا بالله عليكم .
إذن : نحتاجُ إلى الاجتهاد الحقيقي وعدم الالتزام بالآراء الشخصية النابعة من إنسانٍ لم يرتقِ إلى درجة النبوة ، بل الالتزامُ كلُّ الالتزام بالقرآن والأثر والفَهْم الصحيح ، والاجتهاد حَسَبَ العصر الذي نحن فيه .
وأن نتركَ التَّقديس ( سهام إبليس لتحجير القُلوب والعقول ) كفاكم خُضوعًا وخُنوعًا ، وتقبيلا للأيدي، فتقبيل الأيدي : للأمِّ والاب والزَّوجة والطفل.
نتركُ دائرةَ التقديس، وندخلُ دائرةَ الاحترام، والأدب، والتقدير، والذكرى الجميلة .
قال تـــعالى : ( قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ)
(طه: 135).
اللهم أصلِح حالَ الأمة من أسْوَدِهَا وأبيضِهَا وَعَرَبِهَا وعَجَمِهَا وسُنَّتِهَا وَشِيعَتِهَا عَلَى صِرَاطِكَ المستقيم .. يا أرحم الراحمين ..
اللهم انزعْ فتيلَ الصِّراع من أجل نُصْرَة رأيٍ واجتهاد من شخصٍ على شخص ..
اللهم اجعلنا أمةَ الفِكْر والعِلْم والاجتهاد والحُبِّ حَسَب الزَّمان ، والخروج من قيد من اجتهدَ لِزَمَانه ، ونحن على هَذَا الأمر مُتمسِّكون .
اللهمَّ اجعلنا مِنَ الذين يَلتزمونَ بالكِتَاب وَالأثر يا ربِّ العالمين ..
اللهم اجعلنا من الذين يُعظِّمونَ شَعَائرَ الله (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)
(الحج: 32).
اللهمَّ اجعلنا مِنَ الذين يَلتزمون بالحُدود، ويُعظِّمونَ حُرُمات الله: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ) ( الحج: 30).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار.
◈◈◈◇◈◈◈
مقتطفات من مؤلفات و كتابات فضيلة السيد الشيخ محمد تحسين الحُسيني النقشبندي القادري رضي الله عنه وأرضاه